الأحد، 8 يناير 2012

السلفية .. معركتنا الوهمية

ليس من وصفٍ أبلغ ولا أدقَّ لحالة استلاب الهموم الحقيقية التي نمرُّ بها ولا لتكرار المعارك الوهمية التي يستعر أوارها كلما وقفنا على حافة صفحة أخرى من كتاب التاريخ، من وصف الدكتور مصطفى حجازي في كتابه "الإنسان المهدور"1 فالهدر الفكري والثقافي وحتى الأدبي الذي يُغلّف حياتنا العامة ومسيرتنا كمجتمع، يكاد يرمي بنا من مساحة الهامش التي استوطنَّاها على مر سنين شهدت نجاحات متباينة لمجتمعات أخرى قريبة منا وبعيدة، تميّزت في صُنع حركتها الحضارية عمودياً وارتقت في سُلّم تنمية وتطوير ذاتها وعالجت خلل الفقر وانعدام الأمن وتباين توزيع الثروة بين أفرادها.

تلك المعارك التي لا يرفع رايتها البيضاء بعد أن تضع أوزارها إلا أنا، كفردٍ و كوحدةٍ في كيانٍ جماعي – لك أن تتخيل كياناً جماعياً كل مكوناته ترفع راية بيضاء – لا تشبه في عبثيتها إلا مصارعة الديَكة حيث لامعنى حقيقي للانتصار ولا للهزيمة، فالديكة تتصارع من أجل لا شيء، بل لا تعلم حتى لم وُضِعت في حلبة الصراع ، فيما الوحيد الذي يبدو منتشياً من هذا الصراع هو قوةٌ قاهرة أخرى لها حظوة السلطة العليا عليها، وهي تبدو في يديه أدواتٍ طيّعة تتشكل كيفما أراد.

في التاريخ القريب والبعيد، وحتى الأبعد ، ذاك المسموح قراءته ووضع علامات التعجب والاستنكار على سطوره، مع ذلك الآخر المُحرّز بهالةٍ قدسية والممهور بعبارة "خطر .. ممنوع الاقتراب"، كانت صيحة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" أسلوباً ناجعاً –للأسف- في تبديد وعي الناس وهدر طاقاتهم الفردية والجماعية ذوداً عن حياض كيانات الطغيان والاستبداد ،التي تبدو للفِطَر السليمة وللعقول الصافية جليّة كالشمس في أحد أيام الصيف، ليس دونها إلا دخان المعركة الوهمية التي تُشعلها هذه الكيانات لتحجب الرؤية عنها ثم تتفنن في زرعها في وعي الناس ولا وعيهم من باب كونها معركتهم المصيرية التي لا بديل فيها للانتصار إن هم أرادوا البقاء والحفاظ على مكتسباتهم ، مستعينة بأدواتها التقليدية حيث رجل دين/هم لا دين الله، ومثقف/هم الذي لا يصنع وعياً بل غفلة، ومشاريع/هم التي يصفونها أنها حضارية وهي في جوهرها مشاريع للإستحمار كما يقول شريعتي .

في تاريخ الطبري2 أن أحد مستشاري الخليفة عثمان بن عفان كان قد أشار عليه - ليواجه حركة تمرّد شعبية بدأت في التشكّل ضده ورفضاً لبعض قرارته الإدارية في تعيين بعض الولاة من غير أهل الكفاء - أن يُفعّل حركة الفتوحات الإسلامية فيبعث الجيوش في بلاد الله حاملة لواء الدعوة المحمدية .. "حتى يذلُّوا لك فلا يكون همّة أحدهم إلّا نفسه، وما هو فيه من دبرة دابته، وقمل فروه .. وتشغلهم عن الإرجاف بك".

فالوسيلة التي أُشير على الخليفة بها – وأخذ بهذه المشورة – كانت فكرة نبيلة في مبدأها ومما اجتمعت عليه الإرادة الجمعية للناس، لكن الباعث عليها لم يكن بريئاً جداً بل مُدنّساً بالمصلحة التي غابت عن الناس في ظل الصورة المشرقة للمشروع الذي يُجرُّ الناس إليه إن برضاهم وقبولهم أو تماشياً مع الحراك الاجتماعي العام الذي لو رفض أحدٌ التماهي معه عُدّ شاذاً وخارجاً عن الإجماع "المقدس".

القراءة في ماهية معاركنا الوهمية تفضح خواء الفكرة وانعدام الهدف وسلبية النتيجة، ولا يبقى إلا تماهي من أشعلها أو سمح باشتعالها مع صاحب المشورة على الخليفة .. أن الناس بطبعها ترضى عادة بتأجيل مصالحها الخاصة أو حتى العامة في سبيل مصلحة أكبر "أو يرونها هم مصلحة أكبر"، فالسلفية منهج الدولة المحترم في ضمير أكثر الناس، أولئك الذين ينادون بسلفية حقيقة أو الآخرون ممن يرون واقعهم المعاش هو السلفية الحقيقة، في قبالة آخرين يرفضون اختزال أطياف الوطن ومذاهب أهله تحت راية السلفية من باب أنها ندٌّ لمذاهبهم ولا يصح أن تهيمن عليهم.

لم يطرأ جديدٌ يُخاف منه على تبدل معطيات هذه المعادلة، ولم نكن نتّجِه كمجتمع إلى تبنّي الماركسية أو الزرادشتيه، فماذا يعني استنفار طاقات المجتمع وإشعال الحرائق ونصب المؤتمرات وورش العمل بعناوين تتنادى للتأكيد على هوية المجتمع السلفية، وفي ذات الوقت السماح ببعض هامش "الحرية" للأدوات الأخرى التي لا تعجبها كثيراً مسألة الجرعة الزائدة من السلفية في الصحافة ووسائل الإعلام وملتقيات "المثقفين" لتنتقد و تحذر من الإفراط في جرعة السلفية التي قد تقود إلى الإسهال أو الإصابة بعاهات مستديمة في بدن المجتمع المريض أصلاً، ولا ضير في بعض المماحكات الجانبية بعناوين تصب في ذات المجرى، قلة "ليبرالية" خائبة تناكف أو تناكفها أغلبية "محافظة أو إسلامية أو سلفية أو سمها ما شئت" والنتيجة أن من يفوز في جولات المعركة يُصاب بالخدر الجميل الذي تفرزه انتصاراته الوهمية وتكفيه مؤنة سنته أو عمره كله من حاجة الإنسان والمجتمع لانتصارات حقيقية.

1 "الإنسان المهدور – دراسة تحليلة نفسية إجتماعية" إصدار المركز الثقافي العربي 2005

2 تاريخ الطبري - الجزء الرابع تحت عنوان (ذكر خبر اجتماع المنحرفين على عثمان) : اجتمع ناس من المسلمين، فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلًا يكلّمه، ويخبره بإحداثه، فأرسلوا إليه عامر ابن عبد الله التميمي ثم العنبري - وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس - فأتاه، فدخل عليه، فقال له: إنّ ناسًا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك. فوجدوك قد ركبت أمورًاعظامًا، فاتّق الله عز وجل وتب إليه، وانزع عنها. قال له عثمان: انظر إلى هذا، فإنّ الناس يزعمون أنه قارىء ثم هو يجيء فيكلّمني في المحقّرات، فو الله ما يدري أين الله! قال عامر: أنا لا أدري أين الله! قال: نعم، والله ما تدري أين الله؛ قال عامر: بلى والله إني لأدري أنّ الله بالمرصاد لك.

فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان، وإلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإلى سعيد بن العاص، وإلى عمرو بن العاص بن وائل السهمي، وإلى عبد الله بن عامر؛ فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طلب إليه، وما بلغه عنهم، فلما اجتمعوا عنده قال لهم: إنّ لكلّ امرىء وزراء ونصحاء، وإنّكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما قد رأيتم، وطلبوا إلي أن أعزل عمّالي، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبّون، فاجتهدوا رأيكم، وأشيروا علي.

فقال له عبد الله بن عامر: رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك. وأن تجمّرهم في المغازي حتى يذلُّوا لك فلا يكون همّة أحدهم إلّا نفسه، وما هو فيه من دبرة دابته، وقمل فروه. ثم أقبل عثمان على سعيد بن العاص فقال له: ما رايك؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن كنت ترى رأينا فاحسم عنك الداء، واقطع عنك الذي تخاف، واعمل برأيي تصب؛ قال: وما هو؟ قال: إنّ لكل قوم قادةً متى تهلك يتفرّقوا، ولا يجتمع لهم أمر، فقال عثمان: إنّ هذا الرأي لولا ما فيه. ثم أقبل معاوية فقال: ما رأيك؟ قال: أرى لك يا أمير المؤمنين أن تردذ عمّالك على الكفاية لما قبلهم، وأنا ضامن لك قبلي.

ثم أقبل على عبد الله بن سعد، فقال: ما رأيك؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين أنّ الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم. ثم أقبل على عمرو بن العاص فقال له: ما رأيك؟ قال: أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون؛ فاعتزم أن تعتدل، فإن أبيت فاعتزم عزمًا، وامض قدمًا؛ فقال عثمان: مالك قمل فروك؟ أهذا الجدّ منك! فأسكت عنه دهرًا، حتى إذا تفرّق القوم قال عمرو: لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أعزُّ علي من ذلك، ولكن قد علمت أن سيبلغ الناس قول كلّ رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي، فأقود إليك خيرًا، أو أدفععنك شرًّا.

حدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو بن حمّاد وعلي بن حسين، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن عمرو بن أبي المقدام، عن عبد الملك ابن عمير الزُّهري، أنه قال: جمع عثمان أمراء الأجناد: معاوية بن أبي سفيان، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعمرو بن العاص، فقال: أشيروا علي، فإنّ الناس قد تنممّروا لي، فقال له معاوية: أشيرعليك أن تأمر أمراء أجنادك فكيفيك كلّ رجل منهم ما قبله، وأكفيك أناأهل الشأم؛ فقال لهعبد الله بن عامر: أرى لك أن تجمّرهم في هذه البعوث حتى يهمّ كلّ رجل منهم دبر دابّته، وتشغلهم عن الإرجاف بك، فقال عبد الله بن سعد: أشير عليك أن تنظر ما أسخطهم فترضيهم، ثم تخرج لهم هذا المال فيقسم بينهم.

ثم قام عمرو بن العاص فقال: يا عثمان؛ إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية، فقلت وقالوا، وغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزمًا، وامض قدمًا؛ فقال له عثمان: مالك قمل فروك! أهذا الجدّ منك! فأسكت عمرو حتى إذا تفرٌّوا قال: لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أكرم عليَّ من ذلك، ولكني قد علمت أنّ بالباب قومًا قد علموا أنك جمعتنا لنشير عليك، فأحببت أن يلغهم قول، فأقود لك خيرًا، أو أدفع عنك شرًّا. فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه، ويحتاجوا إليه، وردّ سعيد بن العاص أميرًا على الكوفة، فخرج أهل الكوفة عليه بالسلاح، فتلقَّوه فردّوه، وقالوا: لا والله لا بلى علينا حكمًا ما حملنا سيوفنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق