الجمعة، 15 يوليو 2011

فن كتابة المقالة المسخرة !

غرامُ هواة تسجيل الأرقام القياسية والأوليّات عندنا لم يهتدِ بعدُ إلى إنجازات وأوليّات صحافتنا العتيدة على كثرتها وتميزها الخارقَين، فهنا – في صحافتنا – يعيشُ آخر الديناصورات، وهي من كل العالم قد انقرضت، هنا تحتلُّ الإعلانات التجارية مساحاتٍ لا تُشبه في شيء مساحتها في صحافة بقية أنحاء العالم، هنا في ثقافتنا الحدُّ الأعلى من الأساليب العملية للانتفاع بأوراق الجريدة فهي "سُفرة" طعام، وهي "ممسحة" للزجاج، وهي "ستارة" لأبواب المحلات في مرحلة دهن الجدران، عدا عن كونها مساحة للانتقام و تصفية الحسابات الشخصية وتنمية مهارات اللغة ومهارات الغزل و...إلخ.

أما عاداتنا في التعاطي مع الفعل الثقافي المُسوّد في الجريدة فهي بلا جدال الأكثر غرابةً في العالم، فأغلبنا يبدأ بتصفُّح الجريدة بدءاً بالصفحة الأخيرة، يقضي الوقت الأطول في مطالعة رسوم الكاريكاتير وأخبار الرياضة و "الفن" وإعلانات المحال التجارية، ولا يكاد يصل الصفحات الست الأولى حتى يُدرِك أن في حياته ما هو أهم من "كلام الجرايد" و إضاعة الوقت بتصفُّحِها.

أما الأهمّ من كُلِّ هذا، فعددُ العاهات .. أعني القامات الصحفية الشامخة التي تُنبئُ كل صباحٍ عن حالنا الفكرية والثقافية و الحضارية الرائعة!

لا أذكُر أنّ منهج "فن التحرير العربي" – وهو لا يعني بأي حالٍ تحرير الأراضي العربية المحتلة، أو تحرير الأسرى – الذي دَرستُه كمنهجٍ اختياري في الجامعة، لا أذكر أنه تطرّق لما يُعرف بالمقالة الساخرة، ربما لأن أغراض التصنيف التي ذكرها الكتاب لم تكُن معنية بالتفريق بين المقالة الساخرة وغير الساخرة، أو ربما لأن "السخرية" لا تليق بكُتّاب المناهج الأكاديمية وتجرح في مدى جديّتهم!

يقول "غسان كنفاني" أحد أبرز من كتب المقالة الساخرة عربياً " إن السُّخرية ليست تنكيتاً ساذجاً على مظاهر الأشياء، ولكنها تُشبِهُ نوعاً خاصاً من التحليل العميق، إن الفارق بين النكتجي والكاتب الساخر يشابِهُ الفارق بين الحنطور والطائرة، وإذا لم يكُن للكاتب الساخر نظريةٌ فكرية فإنه يُضحي مُهرّجاً"

ويقول الكاتب السوري " نجم الدين السمان" أن آراء الأدب الساخر بشكلٍ عام، خيطٌ رفيع بين التهريج وإدماء الروح، ويُعرِّفُ الأدب الساخر على أنه "موقفٌ من العالم لالتقاط أبرز مُفارقاتِه وهجاء لنقائضه، يُدمي الروح في اللحظةِ ذاتها التي يُضحك فيها الكائن البشري على ضعفه وتخاذُله و خسّته وابتذاله، قبل أن يضحَك بسببها الآخرون".
و يُضيف " .. حتى لكأنّهُ آخرُ ملاذات الكائن من اغتيال كينونته، بل نافِذَتُهُ على قهقهةٍ مديدة مُنغَمسةٌ بالألم تَسخَر لتهجو الطغاة والجلادين وكتبة التقارير وقتلة الحب والجمال وضحكات الأمل".

أحمد أبو خليل كاتبٌ صحفي "ساخر" يفرق بين المقالة الساخرة والأدب الساخر بشكل عام " الأدب الساخر فيه نشاط أبداعي، أما المقالة الساخرة فيمكن أن تكون مرتبطةً بأحداث، أو موقف الكاتب من قضيةٍ يتّخذ فيها مَوقف التّهكُّم و السُّخرية".

لا أعتقد أن أيّاً من هذه المعاني أو الأوصاف و المزايا تنطبق على أي فعلٍ كتابي يُمارسُه كُتّاب الصحافة في محيطنا القريب، رغم بعض المحاولات – المحترمة- للبعض هنا أو هناك أبرزها محاولات جعفر رجب و الكويتي "بو شيخة" والسعودي "محمد السحيمي".

هذا العَوز التي تعانيه صحافتُنا من كُتّاب المقالة الساخرة، أبدلنا الله عنه بوفرةٍ في كُتّاب المقالة "الـمَسخرة"!
و "المقالة المسخرة"، مصطلح أزعم كل الحق في ابتكاره لتوصيف جُملة ما تُطالعُنا به صحافتُنا المحلية مما يفتقر إلى كل شيء من فنون التحرير العربي أو غيرها من فنون إلا فن ابتكار "المسخرة".
و “المسخرة" اصطلاحٌ محلي يعني تارة فعل ابتكار السخرية، وأخرى يُستعمل توصيفاً لضعفٍ بنيوي أو منطقي أو دلالي لفعلٍ كتابي أو كلامي أو حتى مجرد رأي.
آخر عاهات .. أعني قامات صحافتنا من كُتّاب المقالة "المسخرة" كانَ رجُل الدين المعروف عضو اللجان الشرعية في أغلب المصارف المحلية وعضو هيئة كبار العلماء، نالت شرف نشر إبداعاته الفكرية صحيفةٌ عاصمية كبيرة، لا أدري إن كان دافع آخر عبقرياته تجربةٌ شخصية أو استفتاء سَمِعَهُ في برنامجه التلفزيوني الشهير أو مُجرد فكرة عابرة، المقال "المسخرة" كان يحكي عن نظام إصدار التذاكر الإلكترونية الذي تبعته شركة طيران محلية، كان الشيخُ يشبّه الحال التي وصلنا لها بمن أراد إتقان مشية الحمامة فأضاعها وأضاع مشية الغراب، وكم يُؤسَف على مشية الغراب!
ضمّت المقالة جُملة من فلتات الشيخ الفاضل فهو يرى أننا " أردنا – بتطوير نظام إصدار التذاكر الإلكترونية - أن نتطور مع الزمن من غير حاجة إلى هذا التطور" فإما أننا بلغنا من التطور ما يُغنينا عن تطور – سخيف – كهذا أو أن أمر تسهيل إصدار التذاكر الإلكترونية غير ذو جدوى وحاجته منتفية ، فهو في أغلب الأحيان كان يُكلّف شيخاً – سكرتيراً – بمهاتفة وكالة سفر – الشيوخ – التي تًُرسل لسماحته "التذكرة الزرقاء المأسوف على فراقها – كما يقول.
ويواصل عبقرياته المُضحكة بنقد مبدأ عامٍ " إلا أنه عقدة التقليد الأعمى فأخذنا بما يعرف بنظام الكمبيوتر" لنقد حالة خاصة، وهو هنا ناقم على التقليد الأعمى، فلماذا نقلد بعمى ونحن الذين ابتكرنا ببصيرة نظام التذاكر "الزرقاء" المأسوف على فراقه!، ناقم على "ما يُعرف" وهو بالمناسبة - غير أكيد من المعلومة – على نظامٍ يدعوه الفرنجة وعلمانيو هذه الأمة بنظام الكمبيوتر وهو – والله العالم – زنديقٌ من زنادقة هذا العصر جاء ليعيث في بلاد الإسلام عبثاً و يُبعد المسلمين عن تعاليم دينهم و يقضي على إحدى أبرز معالم التراث الإسلامي المجيد "التذكرة الزرقاء" المأسوف على فراقها ولا حول و لا قوة إلا بالله.

ويضيف أن الحال صارت " فصدرت التذاكر بأوراق لا يعرف صالحها من فاسدها" فبعض هذه الأوراق يبدو أنها من تلك التي لا يُعلم أنها تهتدي لصلاة الجماعة معه أو تحضر دروس سماحته بعد الصلاة ، وأغلب الظن أنها تستمع للموسيقى وتُبيح الاختلاط وهذه مفسدة العصر ومصيبة الدهر، بينما كانت "الزرقاء" عفيفة صالحة انحصر دورها في تربية الأبناء على نهج السلف الصالح دون الاغترار بمكائد الأعداء بدعوى تحرير المرأة وهم يعنون فسادها وانحلالها الأخلاقي.
ثم يُسهب الشيخ الجليل في نقد تقني و يتحدث عن "إستراتيجية واضحة للراكب والموظف والمناوب" طالباً من مدير الشركة المعنية “أن تترك هذه التنظيمات المظلمة"، فهي "مؤسسة إسلامية مملوكة لحكومة إسلامية" وعليها " تقوى الله والبعد عن كل عقد تضيع منه الحقوق وتقع فيه المظالم" بعد أن يشرح شيئاً من علمه الوافر في فقه "تذكرة السفر"!

المقالة "المسخرة" التي كتبها الشيخ هي بحق دليلٌ آخر على أسبقيّة صحافتنا في منح ديناصورات وعاهات فكرية كالتي يُمثِّلها الشيخ - خير تمثيل- مساحةً ليُسهموا في رفد اللغة العربية وفنونها التحريرية بأصناف وأنماطٍ كتابية جديدة لا تجدُ لها في كل الدنيا مثيلاً، وهو بلا شك ليس فريد عصره في المجال بل صفحات الجرائد عندنا غنيةٌ بمثل هؤلاء، يكتبون في كل شيء .. وكُل ما يكتبون يصح أنه من فن كتابة "المقالة المَسخرة".

علي المرهون
5/5/2010م

الصورةُ لغةً!

فاتَ على "والت ديزني" مؤسس الشركة التي تحمل اسمه وصاحبة المنتزه الشهير ديزني لاند، و مُخترع الشخصيات المتحركةِ الأكثرَ شُهرةً في العالم "ميكي ماوس" و "دونالد داك"، أن يُقيِّد مقالتَهُ "من بين كل اختراعات وسائل الاتصال، لا تزال الصورة هي اللغة الأكثر فهماً في العالم" بقَيدٍ يحفظُ لها نجاعتها أبداً، على قاعدةِ (أنا الرجلُ الأقوى في العالم .. إلاَّ أن يُصارعني أحد!!)، فاختيارُه للصورة لتكون اللغةَ الأكثر فهماً يُواجه امتحان بقاءٍ ومصداقية هذه الأيام، فهي باتت لغة قلّما تجد من يُمارِسُها بطلاقةٍ مُفترِضاً أن الطرف الآخر لن يفهم أموراً سوى تلك التي عناها صاحب الصورة!

لا يُمارِسُ صاحبي هذه الأيام أيّاً مما حكاهُ عن قواعد التَّحكم في ما يُعرف بـ”الاستهلاك بدوافع نفسية” Emotional Spending، فهو يشتري ويشتري ثم يسأل نفسه: ما كان السبب لأشتري هذا؟
مما وقعت عليه تلك "اللعنة" كاميرا الكانون D40 وبعضٌ من الأدوات المساعدة. صِرتُ مضطراً لتَقمُّص دور المُعجب بأعماله كل حين، فتارةً تفتقت مُخيلَتُه العبقرية عن صورة لسيارته الـ"قرمبع"، وأخرى أودع عُصارةَ خبرته في لقطة لعصفورٍ تحسَبُهُ ميتاً لشدة ما أصابهُ من وهنٍ.

كُنتُ في كل مرة أُبدي الحماسة والتشجيع وأحرص على تبديل كلمات الإعجاب حتى لا تكون مُستهلكة.
مَلأَت رِئَتهُ وعقلَه كلماتُ الإعجاب التي أختلِقُها فأتاني شاطحاً مُفرِط الثقة بالنفس ليُمارِسَ النقد الفني .. كلهم يُمارسون النقد الفني منذ الأسبوع الأول لاقتناء الكاميرا!!

كان يَسخرُ من " لا احترافية ذاك الشخص أو الشيء أو الجهاز" الذي يختارُ الصور المُرفقة في الأخبار الصحفية، حكى عن خبرٍ بذاته، خاتماً بأنهم لا يفهمون مُضيفاً "وش أسوي أنا بصورة وكيل الوزارة في خبر عن مروءة وشجاعة حارس المستشفى، الذي أنقذ المرضى من حريقٍ كاد يُحيلُ المجمع الطبي أثراً بعد عين؟!".
ثم أضافَ "ما ذنبُ الحارس المسكين، ليُحرَمَ من مكافأة مشاهدة صورته في الجريدة و الافتخار بها أمام أطفاله الصغار ، كانوا سيُحبون صورة والدهم البطل ويحكون عنها كثيراً لأقرانهم، كل ذلك لأن القائم على الأمر في الجريدة (غبي) ولا يُحسِنُ خلق التلازم بين نصوص الأخبار ومعانيها والصور المرفقة بها!"

كان استنتاجُهُ إسفيناً في نعشِ مقالة الأخ "راعي الألعاب " فلا الصورة كانت اللغة الأكثر فهماً في العالم من بين وسائل الاتصال الأخرى ، ولا هم يحزنون!

ولأبرهن على هذا أقول:
حارسُ مستشفى راتبهُ الشهري في الغالب لا يتجاوز الـ1500 ريال، مؤهلهُ العلمي في أحسن الأحوال شهادة المرحلة المتوسطة، إن كان سعودياً "أصلياً" فهو لن يكون من أبناء "القبايل" بل "حضري" وإن كان، فمن قبائل الجنوب (بالسعودي 07)، لا يهتم أحدٌ من المرضى والأطباء والممرضين "والممرضات" باسمه ولا رسمه ولا حتى من يكون، يقف كخشبةٍ مسندة من السادسة صباحاً حتى السادسة مساءً "هذا بافتراض أنه يعمل في وردية النهار، وإلا فالحكاية أخرى"، يختار من السيارات التي تقطع البوابة الرئيسية للمجمع الطبي أغلاها سعراً "بافتراض أنه يعرف أسعار هكذا سيارات!" ليُمارس لباقته و الإتيكيت الذي لم يتعلمه، و يعدِلُ هندامه ويُلوِّحَ بيدهِ "الكريمة" فاغراً فمَهُ عن أسنانٍ أشدَ بياضاً من اللؤلؤ، وإن كانت السيارة من فئة أخرى، فكلماتُ الاستفسار الأكثر غباءً في الدنيا "وش عندك؟" و "وين رايح؟" هي أفضلُ السيناريوهات التي قد يُمارسها.

من جهةٍ أخرى، وكيلُ وزارةٍ "بالمناسبة هي ليست وزارة الصحة، بل وزارة المهجرين والبلديات!" هو ممن "عركتهم" التجربة و صقلتهم الخبرة فصارت رواتبهم بمئات الآلاف " كم جميل هذا التلازم"، أما مؤهلهُ العلمي فليس مهماً ،فالخبرةُ تكفي "و توفّي"، هو غالباً بدوي النسبُ "والحسب" والشكل والمنطق، تجدهُ أول الحضور في ولائم العشاء التي تُقام على شرف "مين يا ربي مين ... أي أحد" واحتفالاتها و المؤتمرات العلمية التي تُقيمُها، نجمٌ للصفحات الأولى في الجرائد والمجلات "سيدتي و ما شابه"، رجلٌ معطاء .. ألا يكفي كل ما قُلتُه بُرهاناً على أنه "معطاء"!

ثم بعد كل هذا، يسأل "الأخ أبو كاميرا جديدة وش يسوي بصورة وكيل الوزارة، مُغفِلاً أنها مُلهمة للأجيال!" مُنتقداً آلية اختيار الصور وإرفاقها بالأخبار في صحافتنا.

وأقول له مُفنداً ، هنا يا عزيزي الآلية:
من وافق على تعيين المسئول في الوزارة الذي وافق على تعيين مدير المستشفى الذي وافق على تعيين مسئول المستشفى الذي وافق على عطاء "مناقصة" شركة الأمن والحراسة التي راح صاحبُك "الحافي" ليبحث فيها عن وظيفة بـ 1500 ريال "هالشحات"، وكان حظّه كحظ الذي عثر على كنزٍ في الربع الخالي لكنه لم يكن غبياً بالحد الذي يختبر به دقة كاميرا جواله في لحظات كهذه ثم ينشر الصور التي ألتقطها في الانترنت ثم تأتي "الوطن" و "تسوي شوية أكشن" بسؤالها "من يعرف هذا الرجل؟" تأثُراً بأيقونة WANTED التي نتابعها في أفلام الكاوبوي ، فحصل على الوظيفة التي يحلم بها كل الشباب في مقتبل العمر(!) ؟

الجواب"يللي ما تخاف الله": إنه وكيل الوزارة!
بربك، حينها ألا يعني نشرُ خبرٍ مفادُهُ أن (حارس مستشفى كبير، ينقذ مرضاه " لا يهم مرضى المجمع أم مرضى الحارس .. المهم مرضى و الله يعافيهم" من حريقٍ كاد يُحيلُه أثراً بعد عين) ألا يعني أن عطاء وكيل وزارتنا ملأ الخافقين ونجاحاتهُ وإخلاصه وتفانيه مما يُحكى جيلاً بعد جيل، ويصلح ليكون عِبَراً وأساطيرَ تُحكى بعد مئات السنين، فيكون بذلك مؤدى الخبر الصحفي، و مُراد مُحَرِّره أن الوكيل هو الأحق أن يُحتَفى به ويُكافأ ويُجازى على جليل خدماته و جزيلها؟!

بافتراض أنك تتقي الله وتخافُ نِقمَته، ستُسلّمُ بكُلِّ ما "ورد أعلاه"، وإذ ذاك فالحقيقة أن "الشخص أو الشيء أو الجهاز" الذي اختار الصورة المرفقة بالخبر، كان مُحِقّاً في اختيارِهِ، ناجعاً في الربط بين الخبر والصورة بشكلٍ يصل بالمعنى المراد عبر الطريق السريع للفهم " ودرأً للفتنة، طريق سريع لا يشبه طريق الدمام – الجبيل السريع، في شيء إلا اسمه"، فالحكاية حكاية "إنجازٍ وطني" وبالتأكيد ليس على شاكلة ( أعلن أبناء فلان أن أبوهم فلان فاز بالجائزة التي خصصها أبناء فلان "نفسه الأولاني" لرجل الأعمال الخيرية هذه السنة)! والدليل أن وكيل الوزارة "مو نسيب" كاتب الخبر "ولا يعرفه أصلاً"، إنجازٌ تحكم ذرات الإنصاف التي تتطاير في الكون كلها أنه الأحق به فهو من اختار "سلسلة الناس" التي أتت بحارس المستشفى الذي يُحكى عن مروءتِهِ وشجاعته حكايا ، "إن كانت صادقةً" ، فهي لا تُلزمنا بشيء!!


علي المرهون
14/4/2010م

بابار علي

إلى النقطة الأبعد في الشّرق الهندي ، سافرَ Damian Grammaticas مراسل قناة الـ BBC في منطقة جنوب آسيا، تحديداً لولاية البنغال الغربية، لا ليأسفَ لتاريخ الهواية الإنجليزية الأشهر في تقسيم البلدان و تجزيئها على أسس عرقيّة أو طائفية (البنغال الغربية هي الشطر الهندي الحالي من البنغال الكبرى التي تشمل بنغلادش الحالية وقد شطرها الإستعمار البريطاني إلى شطرين، ذهب المسلمون بشرقها ، والهندوس بالغرب)، ولا ليُمارس هواية تسلِّق الجبال ومغامرات استكشاف الطبيعة في الهملايا، ولا حتى ليحكي عن شاعر الهند الأشهر "طاغور"، بل ليأتي بأولى حكايا سلسلة Hunger to Learn التي أطلقتها القناة مؤخراً لترصد أجمل حكايات الشغف بالتعلم والبحث عن المعرفة وأكثرها إثارة في العالم.

"أصغر مدير مدرسة في العالم" هكذا عنون المراسل تقريره الأول، أما بطل الحكاية فهو صبيٌ في السادسة عشر من عمره يُدعى "بابار علي"، تقطن عائلته الفقيرة في مدينة "مرشدآباد" التي تعاني تفشّي الفقر والجهل والأمراض بمستوىً يفوق سواها من مدن الولاية.


يومُ المراهق بابار يبدأ باكراً، يستيقظُ ليساعدَ في أعمال المنزل والحقل اليومية، ثم يمتطي عربة الريكشو إلى مدرسته التي تبعد قرابة الـ10 كلم، يقطعُ بعضاً من آخرها ماشياً لوعورة الطريق، ثُمَّ يُمارس هوايته الأفضل.. "التَّعلُم" في مدرسة تُعدُّ الأفضل في المنطقة القريبة، لأنها في فصولها بعض الكراسي والطاولات، وسبورةً .. و مُدرِّس !!

يتفاعل بابار مع كل المواد الدراسية بإخلاصٍ وعشقٍ للتعلم .. يستمع، يناقش، يدوِّن الملاحظات ليستذكرها، يتأكد من استيعاب كل ما يُلَقّن، ليس من أجل تحصيل العلامة الأعلى في امتحانات نهاية الفصل فقط، بل لأنه يحمل رسالة وواجباً عاهَدَ نفسهُ أن يُخلصَ في أداءهما ما استطاع.

يومهُ لا ينقضي بصافرة الحصة الأخيرة ليبدأ اللعب وممارسة هواية أكثر متعة، بل يبدأ فصلُه الثاني عند وصوله من رحلة العودة الشَّاقة إلى قريته، هناك وفي باحةٍ خلفية لمنزل العائلة يجتمع قرابة الـ800 طفل بين ذكرٍ وأنثى من عمر الخامسة إلى الخامسة عشر، كلهم يتساوون في حقيقة أن أهاليهم عجزوا عن إرسالهم لتلقي التعليم النظاميّ في المدارس رغم أنه مجاني!!

بابار الطالب المتعلم صباحاً، يُمسي أستاذاً معلماً ومديراً لمدرسة غير نظامية، فصلها واحد، لا زيّ موحد لها ولا مقاعد مخصصة للطلاب فيها، يبدأ طقوسه الخاصة فيأمر طلابه بتلاوة النشيد الوطني، ثم يقدِّم لهم نصيحةً عن النظام أو النظافة أو طاعة الوالدين ليبدأ بعد ذلك في نقل العلم الذي اكتسبه لهم، ليشاركهم "متعة المعرفة"، يقول بابار "في هذه المدرسة سيتعلمون مما تعلمته أنا، ولم يقدروا أن يكونوا مثلي لأن آبائهم فقراء جداً".

ويضيف "كنتُ في التاسعة حينما بدأت بممارسة دور الأستاذ لأصدقائي على سبيل اللهو، كانوا معجبين ومتلهفين لمعرفة كيف تسير الأمور في مدرستي وماذا يحدث هناك، كانت لعبة فقط .. لكني الآن، أستشعر أن هؤلاء الأطفال لن يتمكنوا حتى من القراءة والكتابة إذا لم يتلقوا بعض الدروس، إنه واجبي أن أعلمهم كما تعلمت أنا.. لنساعد بلادنا لتبني مستقبلاً أفضل".

مدرسة "بابار علي" الآن فيها 10مدرسين جلّهم تلاميذ مدرسة أو جامعة، تُقدِّم خدماتها التعليمية بلا مقابل ، حتى الكتب الدراسية والوجبات الغذائية تُعطى مجاناً للطلاب الـ800 مُعتمدةًً على التبرعات الخيرية التي تتلقاها.

مسئول محليّ في المدينة قال " إن هذه المنطقة من الولاية تعد الأفقر، لكن مبادرة بابار زادت نسبة القارئين وخففت مستوى الأميّة بين الأطفال، لا يمكننا أن نُقدِّم له أكثر من الشكر والعرفان"

هو حتماً لم يقرأ شيئاً في الانترنت عن إدارة المعرفة Knowledge Management وأن نقل المعرفة للآخرين هو وسيلةٌ وهو غاية، ولم يستمع لخطابات وعظيّة عن العطاء والتضحية والعمل التطوعي، وما لُقِّن أن "زكاة العلم تعليمه".. هو فقط مارس ذاته الإنسانية كاملةً، استشعر أمانة موازية للنعمة التي يُلقّاها، أحسَّ بالواجب تجاه قريته وبلده.. وأصدقاءه.

كانت فكرةً شاهقة الجمال، لم يقرأها في رواية انتهت على رفِّ المكتبة، ولا كتبها خاطرةً ليقرأها آخرون، ولا حتى وأدها في خياله الخصب.. هو أبتدعها، ثم آمن بها ، ثم أمَّن لها الحياة.

يقول مالك بن نبي: "لا يكفي أن تُبدعَ أفكاراً.. بل يجب أن تؤمِّن لها الحياة"



علي المرهون
13/10/2009م


من كشكول ذكريات العيد

لم يعد لعنصر الزمن في قصتنا هذه ، معنى .. فأنا وابن عمي نسينا أو تناسينا كم من السنين مرت على ذاك الوعد ، لكننا لازلنا ، وكما تعاهدنا " سنبقى " نذكر وعد عمنا الأصغر حين كنا أطفالاً ولم يك بعد قد صار أباً أن يأخذنا " نحن الاثنين فقط " في رحلة خاصة لمدينة " محمد بن فهد الترفيهيه " ... يومها تناثرت " العشرات والخمسات " من أيدينا فرحاً بالوقت اللامحدود برغبة أبوينا وبالمتعة اللامتناهية بتعبِ الأهل ..

تناثرت تلك الفرحة لؤلؤاً على خد الطفولة ورذاذاً غسل الدنيا وصباحات العيد بمطرِ وجدنا فيه متعةً تقوى على إبراء الجرح .

مرت الأيام وكبرنا .. وأتى العيد من قابل ، ووعَدَنا ، لكن السماء شاءت مرة أخرى ، مشيئتها لم تكن يومئدٍ مطراً بل ظروفاً خاصة به أحالت الوعد إلى بند " يؤجل حتى إشعارٍ آخر " ..

أما الإشعار الآخر ذاك فحين أقبل يوم العيد الآخر ، ألغته صراخات ولي عهده الموعود .. بطفولتنا ، لم نستمرء مبرره ذاك لكن ماحيلة الطالب أمام المطلوب إلا الرجاء .. لم يُفلح معه الرجاء فمرّ العيد ونحن نغفر للمرة الثالثة حنثه باليمين ولا وفاءه بالوعد.

كبرنا وكبر ولي عهده و " النائب الثاني " فصارت تلك حكايتنا السنوية كل عيد .. نضحك ويضحك ولا من يفهم سوانا نحن الثلاثة ..

للحق صرنا ندافع عن لا وفاءه بالوعد ، كأنه قدر الطفولة أن تسمع دروساً عن بشاعة اللاوفاء وقدر الرجولة أن تمارسه ويمر الزمان لتضحك عليه حكايةً وذكرى ... وللحق فحكايتنا معه تمتع وتستجلب الكثير من النشوة والفرح كلما استحضرناها.


قبل ذكرى العيد الـ ...طعش على تلك الحكاية .
26 رمضان 1427هـ

حقوق أخرى .. ضيعناها

كان طبيعياً أن يمارس الإنسان متعة "الإستحقاق" بعد أن تطور فكره وصار عالماً بمعادلة الحق والواجب ، فمارس سلطة صاحب الحق كمكتسب طبيعي يقبله ويدعمه العقل قبل التشريعات سماويها وأرضيها، لا يُنازعُ عليه إلا حين يُنازعه غاصب أو ظالم أو معتدٍ.

خلال مراحل التاريخ البشري تطور مفهوم "الحق" من كونه ممارسة وضع اليد على الملكية الخاصة إلى التصرف بها حتى وصل إلى أن اتفق فقهاء القانون على أن التعريف الإصطلاحي له هو أنه " عبارة عن فائدة مادية أو أدبية يحافظ عليها القانون بوساطة منح صاحبها قوة يعمل بها الأعمال اللازمة للتمتع بهذه الفائدة."1 في حين كان التعريف اللغوي لكلمة "حق" : الثبوت والوجوب.


لم تكن أوجه التعدي على الحقوق تخرج عن إطار السرقة المادية أو الانتفاع بممتلكات الآخرين دون إرادتهم أو ممارسة التسلط على حقوقهم دون مسوغ قانوني ، لكن التطور البشري ترافق مع تطور في أساليب التعدي وممارسة نقض حُرمة الحقوق فصارت السرقات اللامادية شائعة كالنوع المتعارف من السرقة ، وصارت الاستفادة من ممتلكات الآخرين دون إرادتهم تتم بأشكال غير تلك التي ألفها بنو البشر ، هذا لم يتأتى والفكر البشري ومكتسباته الحضارية ونتاجه العلمي جامد ، بل كان محصلة طبيعية لهذا التطور ، فكما العلوم تنكشف والأساليب العلمية والبحثية تتطور ، كذلك القرصنة والتعدي وسلب حقوق الآخرين تتطور.

أحد أوجه التطور في فقه القانون ما اصطُلح على تسميته "حماية الحقوق الفكرية" وهذه تعني مبدأ المحافظة على المكتسبات المادية والمعنوية التي يحرزها مخترع أو مؤلف أو مكتشف ، تنحصر سلطة التمتع بإستحقاقها بشخصه هو دون السماح للآخرين بالتعدي على حقه المادي كالانتفاع التسويقي والمالي بها وحقه المعنوي كإدعاء الحق فيها.
التفاعل العملي لهذا التنظير القانوني برز فيما خرج به علماء القانون وأسموه "براءة الاختراع" وهو تطور قانوني تقني لما وُجد في تاريخ الحضارة الرومانية التي مارس فيها الحاكم سلطة حماية حقوق المبدعين فكان أن منح مخترع أي طبخة جديدة حق طبخها لوحده مدة عام كامل مكافأة على إنجازه ولمنحه العوائد المترتبة على حصرية الانتفاع ، أما في التاريخ الحديث فأن أول من سنّ قانون "براءة الاختراع" هو الرئيس الأمريكي الأول جورج واشنطن الذي أمضى مرسوماً بإنفاذ القوانين المترتبة على حماية براءة الاختراع والقوانين المترتبة على خرق حمايتها.

لكن ماهي براءة الإختراع وكيف تتحصل؟

براءة الإختراع هي "وثيقة حكومية لمنع الآخرين من طبع ، بيع ، استعمال أو الانتفاع بأي شكل من الأشكال من الاختراع سواء كان سلعة أو سر أو علامة تجارية إلا بإذن من حامل وثيقة براءة الاختراع“ ويمكن تسجيلها عبر إتباع عدة خطوات تنتهي بالحصول على الوثيقة كتعبير على امتلاك حاملها لهذه الحقوق القانونية المترتبة عليها ومستند صالح كحجة قانونية أمام العديد من الأنظمة والأجهزة القانونية والحقوقية ، هذه الخطوات2 هي:
• كتابة وتوثيق تسلسل إنتاج الفكرة.
• البحث والتأكد من عدم وجود الفكرة مسبقاً.
• تقييم الفكرة الإبداعية والتأكد من وجود قيمة فعلية لها.
• التأكد من عدم وجود أسماء مخترعين مزيفين.
• استخدام أبسط أنواع الحماية عند الحاجة الماسة.
• التسجيل محلياً وعالمياً.
• توقيع اتفاقية ضمان الحقوق.

و من نافلة القول أن التشريعات والقوانين في العالم العربي لم تصل بعد إلى القوة المطلوبة في القانون كعامل حماية وردع وجزاء ، فأغلب القوانين في هذه البلاد يجهل كاتبوها أهمية الحفاظ على حق كهذا فضلاً عن سنّه كقانون وترتيب آثار قانونية عليه وعلى ناقضيه.
هذا التردي من جانب المشرع والفقيه القانوني و ممثل السلطة هو في الحقيقة انعكاس لحالة الجهل بين المخترعين والمؤلفين والمبدعين بمبدأ حماية الحقوق الفكرية وتسجيل براءات الاختراع إما لجهل بأهميتها أو لقصور في الجوانب التقنية التنفيذية ، فأغلب أصحاب الإنتاج الإبداعي جاهلون بضرورة الحفاظ على حقوقهم في كل ما يمكن للآخرين الانتفاع به مهما صغُر حجمه أو قلّ في العين شأنه .

في العام 2006م سجلت الشركة المصنعة لأمواس الحلاقة "ماك3" 35 براءة اختراع في هذا المنتج وحده ، كفل لها حق الاستفادة من التقنيات الصناعية التي أبدعتها ، هذا العدد من الاختراعات في منتج صغير كهذا كان يعادل ما نسبته 15% من مجموع ما سجلته المملكة في نفس العام!!
و ليس وارداً هنا المقارنة بين ما سجلته مصر كرائدة في مجال تسجيل الاختراعات على المستوى العربي في العام 2006م وبين ما سجلته أمريكا مثلاً، فمصر تصدرت الدول العربية بـ 400 براءة اختراع في حين تصدرت أمريكا القائمة عالمياً بأكثر من 3 مليون براءة اختراع !!

لكن الوارد مقارنة بسيطة بين مجموع ما سجلته الدول العربية وما سجلته "إسرائيل" حيث فاق عدد براءات الاختراع التي سجلها مخترعون ومبدعون إسرائيليون 4 أضعاف مجموع ما سجله مخترعو ومبدعو العالم العربي!!
هذا الحال من التخلف القانوني والتشريعي المتصاحب مع تردي في الوعي وثقافة حماية الحقوق مدعاة للتفكر الجدي في إنشاء هيئة فعالة لتسجيل براءات الاختراع ، و تشريع قوانين تجرم الاعتداء على براءات الاختراع وتحمي حقوق المبدعين ، وكذلك نشر ثقافة حماية الحقوق وتعزيز الوعي بها من منطلق مقالة الإمام علي عليه السلام " لا تحقرنّ من المعروف شيئاً" فكل ما قد يُستفاد منه .. سيُستفاد منه ، إما بحق أو بتعدٍ وتجاوز.


1/ أصول القوانين: د. محمد كامل مرسي.
2/ مما سجلته من محاضرة للدكتور محمد الأنصاري بعنوان "صناعة المستقبل تبدأ اليوم" ألقاها في جامعة الملك فهد العام 2005م

28/6/2008م

كيف تجعل جزء الثانية يدوم إلى الأبد؟!!

رُغمَ التلاشي الجزئي لملف الذكريات المخبوء في الجزء المُعنون بـ"ذكريات مرحلة المراهقة" بفعل التقادم من ذاكرتي، إلاّ أن بعضاً منها كان ولا يزال عصيّاً على التلاشي بامتياز!
لم أزل أحمل في ذاكرتي الصُوريّة ملامح وجه مدير مدرستي الثانوية وبراعته في رسم ردة فعل احترافية، خِلتُها أيقونةً "للتعجب" حين انتهيت من توسلاتي له للسماح لي بالتغيب ليوم واحد لغرض إنجاز معاملة في دائرة المرور..

أيقونة التعجب التي أبدعها كان مردُّها إلى مفاجأة صنعتُها حين أخبرتُهُ أن تاريخي "لسنة واحدة" خالٍ من أي محظورٍ قانوني جزاءهُ "مخالفة مرور"، قال لي بالحرف الواحد: "إن لم تسمح لهم بتشويه صحيفتك في هذه السنة فلا تسمح لهم أبداً، كُن كالبطل لا يرضى بغير أداور البطولة".
كانت كلماته – عدا أنها منحتني شعوراً عظيماً بالرضا – حافزاً حقيقياً.. كنتُ بطلاً بحق، حتى شاء الله وانتهى زمن الأبطال، حين انتهى مفعول كلماته مع مرور الأيام وأفلح أحدهم في تشويه الصحيفة البيضاء.

أحد أهم الفصول لأي كتاب في علم الإدارة الحديث هو ذاك الفصل الذي تتوج صفحته الأولى عادةً بصورةٍ كارتونية كتلك التي يقف فيها أحدهم على الكرة الأرضية.. "كلها"، ويرمق السماء بعينيه وكأنه يضرب معها موعداً حاسماً دونه الموت أو البطولة ، وعادة ما تحتل الزاوية العليا لجهة الشمال من تلك الصفحة عبارة من قبيل " انطلق نحو القمر ، فحتى لو أخطأته فإنك ستهبط بين النجوم".

ثقافة التحفيز أو قل "سحره" كما دعاه بعض من كتب فيه حاضرة بامتياز في النتاج الأدبي والعمل الاجتماعي والسلوكيات التربوية لبعض الثقافات، غائبة بنفس القدر من الامتياز لدى آخرين، وهذا الفارق المنهجي يصنع فارقاً كبيراً في النتيجة.

الطابع العام للنتاج الأدبي لأي ثقافة يُعبر عن اهتمامات وإمكانات تلك الثقافة و يُعد مؤشراً على المنهاج الذي تستخدمه هذه الثقافة في قراءة واقعها واستقراء مستقبلها وصنع الفارق.

بعيداً عن التعمق الفلسفي في قراءة مثل هذه الأفكار وشرح أسبابها، لي –كقارئ وملاحظ بسيط- أن أقف عند عناوين وأفكار وأساليب العلاج التي تطرحها بعض المؤلفات التي تحتل الرفوف الأمامية لأي مكتبة، هناك ستجد وتقارن بين منهجَي نقد وعلاج لهما هدف مشترك ، فالذي يقول في إعلان دعائي لكاميرا "كيف تستطيع أن تجعل جزء الثانية يدوم إلى الأبد؟!!" ثم يقرر أن كامرته قادرة على ذلك ، له نفس الهدف الدعائي الذي من أجله يقول آخر " الحياة فقاعة فحاول أن تصورها قبل أن تنفجر!!"، لكن الفارق بينهما هو في إثارة الجانب الأجمل في عقل المتلقي ففي حين كان الأول يحفز عند مشاهد الإعلان جمالية الاحتفاظ باللحظات والذكريات الجميلة إلى الأبد عبر التقاط الصور ، كان الآخر يمارس نفس الإقناع لكنه أوحى للمتلقي أن عملية التقاط الصور هي آخر ما قد يمارسه لو قرر الموت والرحيل ولا بد من بعض السرعة في إتمام الموضوع.

وحدة الهدف لم تكفِ هنا لتصنع وحدةً في الرؤية الإبداعية للعمل الدعائي، فصانع الإعلان الأول امتلك أداة لم يحرزها الآخر، فقد نجح في تحفيز الرغبة الكامنة عند المتلقي وصوّر له النتيجة جميلةً تبعث على السعادة والرضا، فيما أثار الآخر غبار الحقيقة فقط فتقريرُ الحقيقة المتفق عليها لا يصنع الكثير إذ هو تحصيل حاصل، فضلاً عن أنه أغفل تقديم الحافز المغري.

"انطلق نحو القمر فحتى لو أخطأته فإنك ستهبط بين النجوم" 1

"ليس هناك سوى شيء واحد يمكن أن يجعل الحلم مستحيلاً ، إنه الخوف من الفشل" 2

"إذا كان أحد الأشخاص يعمل كناساً للشوارع، يجب عليه أن يكنس الشوارع بنفس الروعة التي كان يرسم بها مايكل أنجلو لوحاته ويكتب بها شكسبير شعره ، يجب أن يكنس الشوارع بكفاءة تجعل الجميع يتوقفون ويقولون: هنا يعيش كناس شوارع عظيم يؤدي عمله كما ينبغي" 3

هذا المنحى في إثارة التحدي الغريزي وتحفيز القدرات البشرية التي يمتلكها القارئ عبر توجيهها صوب النظر إلى النتيجة الموعودة أضاف للنصوص التي جاءت فيها هذه الكلمات بُعداً تحفيزياً وألقاً جعل منها جزرة الأرنب دون عصاه.

"في اليوم الذي لا تواجه فيه أية مشاكل تأكد أنك تسير في الطريق غير الصحيح" 4

"إذا سمعت نباح الكلب، فأطلق ساقيك للريح فأنت المقصود بنباحه" 5

"نجاح التجربة دليل على خطأ في أحد عناصرها" 6

أما هذا المنهج فهو على فرض إيمان ناهجيه بصوابيّته قد لا تتوقف آثاره على فقدان الأرنب الرغبة في الجزرة التي لم يجد لها ذكراً بل قد يتعدى ذلك فتصبح العصا عقدة بعد أن احتلت كامل المشهد الذي واجهه، فلا هي أثارت في قارئها رغبةً ولا هي تركته دون جرعة إحباطٍ كفيلة أن تُقعده عن أي مشروع للتغيير أو رغبة في الحركة.

ولأن آداب الشعوب ما هي إلا هم كما يكتبون، فإن الممارسة النقدية وعملية التفاعل مع العطاء بكل صُوَرهِ، تأخذ أشكال الممارسات التي يكتبها الروائيون وكتاب المقالات وأعمدة الصحف، فبعضٌ أشبع النواقص بحثاً وتحليلاً و"شماتة" فصارت الوسيلة "النقد" غاية بالنسبة له فلا هو قدم علاجاً ولا مارس النقد بوجهه التحفيزي فشجع الأرنب و أرشده لخط النهاية.

وبعضُ آخر داعب شيئاً من خيالات وطموحات مجتمعه وأغرى فيهم حب الوصول فكان أن استبدلوا "عقاب" تجاوز أنظمة المرور بـ"ثواب" الإلتزام بها، فالعقاب حين يخفق لا يتبقى إلا الثواب وسيلة للتغيير ، هذا في حال لم تُكتشف قدرة التحفيز على تغيير سلوكيات الناس و أطباعهم ، أما لو كان مبدأ العملية النقدية قائماً على التوازن مع ميلٍ تتطلبه طبيعة البشر لكانت الجزرة ممدودة للأرنب وطولها شاهق على طول العصا ، وهي كفيلة بالنتيجة المطلوبة حتماً.

1 لويس براون
2 باولو كويللو
3 مارتن لوثر كنج
4 سوامي فيفيكاناندا
5 من المأثور في الأدب الروسي
6 قوانين مورفي


علي المرهون
27-8-2008م

الأحد، 10 يوليو 2011

ديدان المجتمع!

ليسَ الأمرُ كما قالَ أحدُ رجال الأعمالِ أنّ الهندَ باتت "تصنعُ كلَّ شيءٍ من أيّ شيء!!"، فزَخمُ وتنوّع نتاجات الأُمّةِ الهنديّة ليس حكراً على الصناعةِ فقط، بل تجاوز الآلةَ والمصنع والمواد الخام كمُدخلاتٍ تُطَوَّع لتصلَ في نهايةِ رحلتها إلى أي مُستهلكٍ في أي مكان من كوكبِ الأرض.

فأُمّة المليار إنسان الباذخة الغِنى بثقافاتها و أعراقها ودياناتها، غذّت رصيدها في بنك الحضارة الإنسانية بما هو أكثرُ جدوى وأطولُ في عمره الإستهلاكي من سياراتها و رقائق السيليكون الكومبيوترية وغيرها مما لا يخلو منها ركنٌ في بيوتنا أو مفصلٌ من حياتنا.

"هنا تجد كل ما تعرف، وكلَّ ما لا تعرف"، هي جزءٌ من العالم اختبر كل التجارب وعاش كل الحكايا ، بلدٌ إن أقفرت فيه من شيء فلا تحتمل عناء البحث عنه في مكانٍ آخر، إذ ليس للفقد في هذا البلد معنىً، كلّ ما مارسهُ الإنسان من فعلٍ أو قولٍ، علمٍ أو جهلٍ كان لهُ صدى في هذه الناحية من بلاد الله.

لستَ بحاجة لتفترض أمراً، فكُلّ ما قد يُفترض صار حقيقة في الهند، حتى السيناريوهات الأكثر خيالية. ما دفعني لكتابةِ ما قد يُعدّ (حتى الآن) مُبالغةً هي حكاية جهاز صرف آلي في قرية نائية من الجزء الشرقيّ لشبه القارةِ الهندية.
إلى تلك البقعة نسَب مُحاضرٌ هنديّ - في دورة تدريبية كنت أحضرها قبل أيام - فصول ما اعتدتُ على قراءته في الكتب و المقالات على أنه الحكايا الغير قابلة للتحقق.

حكى صاحبنا أن مواطناً هندياً قصد في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل أحد أجهزة الصرف الآلي لأحد أشهر البنوك التجارية في الهند ليسحب مبلغاً من مالٍ أودعهُ – كما يفعلُ كلّ الناس – لكن الجهاز شحّ بالأوراق النقديّة (وهو أمرٌ لا يستدعي الكثير من تأويل) فقصد جهازاً آخر في الطرف المقابل من القرية فما كان أكرم من سابقه، ساورَهُ بعضُ الشكّ والقلق كما يبالغ كل الهنود في الحرص - والمبالغة هنا بمقياسنا – فهاتف أحد أصحابهِ مُستفسراً عن أي خبرٍ بخصوص إفلاس البنك أو توقّفه عن إرجاع الأموال لأصحابها ، إجابةُ النفي التي سمعها لم تشفِ غليله فقصد منزل أحد الصحافيين يسكنُ في ذات محلّته لعل سعة إطلاع الرجل تكشف الغامض، نفى الصحافيّ أيّ علمٍ، لكنه أُغرِمَ بعنوانٍ لمقالة يكتُبها تتحدث عن مواجهة البنك لبعض الصعوبات في إرجاع أموال عملاءه في تلك القرية.

صباح اليوم التالي صدرت الصحيفة المحلية بالمقال الذي تلقّفهُ مراسلو القنوات الإخبارية بالأخص تلك التي تُعاني لملأ ساعات البث بمواد تلقى قبول واهتمام الناس (لا أدري لم تمارسون سوء النية وتعتقدون أنّي أعني قناة السعودية الإخبارية)، إحدى القنوات زادت – من باب التميز – سطراً إضافياً للخبر يُفيد أن المشكلة التي يواجهها البنك عمّت أرجاء الجزء الشرقيّ من الهند كله.

هنا وبذات الآلية التي تنتشر بها أغصان العنب ، انتشرت الإشاعةُ وأفرزت عمل السحر، ساعات إذ بالمودعين (وهم ملايين) يقفون في صفوف طويلة على أبواب الفروع وأجهزة الصرف الآلي التابعة للبنك ليستردوا أموالهم قبل أن تتبخر ولات حين مندم.

إدارة البنك العُليا تفاجأت بالسيناريو الكارثيّ ولم تمتلك من أمرها شيئاً وربّما قدّمت أسلوب (خليها على الله ، تزين) في معالجة الوضع، فشائعةٌ مثل هذه ستنتحرُ في أرضها مع مرور الساعات ، لكن شيئاً من انتحارٍ لم يكن، بل نحراً غير متعمّد مارسهُ رئيس البنك المركزي إذ خرج على الناس في مؤتمر صحافي ليؤكد استعداد بنكه لمساعدة البنك العريق وأنهم لن يسمحوا له بالانهيار .. والسلام، مما عزّز الشائعة التي حكت عن مشاكل في السيولة يعانيها البنك العتيد.

لم تكد تغب شمسُ ذلك اليوم العصيب إلا والبنك قد خسر قرابة 30% من مجمل ودائعه (لمن لا يُقدّرُ حجم هذه الخسارة ، أتركُ له تخيّل بداية مباراة بين الصقور الخُضر والبرازيل والنتيجة تُشير إلى تفوّق المنتخب الذهبي بأربعة أهداف بدلاً للنتيجة المعتادة في البدايات صفر / صفر .. وهذه أصلاً مصيبة!!).

"المجُتمعات كالفاكهة، الديدان تختفي في قلبها" يقول (بول جير)، و الديدان في حكايتنا يُحتمل أن تكون في صورة: (كثير الخوف والتردد الغير وائق / المُودع مُفتتح الحكاية) أو أن يكون (الانتهازيّ / الصحافي المتحمّس على حساب المصداقيّة) أو (الفاضي وعامل قاضي / القناة التلفزيونية الباحثة عن سبقٍ أو لا سبق ، المهم أن تملأ وقت فراغها الطويل) أو (عديم الحكمة فقير حُسن التصرّف / رئيس البنك المركزي سليم النية أعوج التطبيق) أو حتى (السلبي الغامض المُفترِض خيراً بعد كل إشاعة / إدارة البنك)، لكن الحقيقة التي يتجاوز الإيمان بها حدّ الاحتمال هي: أن الشائعة أيّاً كان مصدرُها أو هدفُها أو البيئة الحاضنةُ لها.. قادرةٌ على إفساد المجتمع كما تفسدُ التفاحةُ في قلبها الدود.


علي المرهون
23/6/2009م