الأحد، 23 مارس 2014

تعلوم ابنتي و "تعلومهم"

قد يلومك البعض لو أسرفت في التفكير والتخطيط والدراسة قبل أن تُقدم على مشروعٍ ينعكس مردوده على حالك المالية أو الاجتماعية أو العلمية أو سواها، بدعوى أن الإفراط في مهابة الأمور مكروهة ، فـ "إلى خيبةٍ يصير الهيوب"، وربما سمعت من صديقٍ صدوق نصيحةً تدعوك لاقتحام الأمر مشفوعة بمقالة  "إذا هبت أمراً فقع فيه".

لكن من قال أن مستقبل أطفالك لا يستحق الملامة والعتاب؟!

لم أعتقد و زوجتي أن أمر اختيار المدرسة التي ستلتحق بها ابنتي سيأخذ من كلينا تفكيراً ودراسةً ومشورةً طالت عاماً كاملاً، فأن تعيش في مدينة كبيرة بها مئات المدارس العامة وعشرات المدارس الخاصة والتي تتفاوت رسوم التسجيل فيها بين الخمسة والخمسين ألفاً يعطيك انطباعاً أنك قادرٌ على ضمان جودة تعليم عالية جداً كلما كنت سخياً في دفع رسوم التسجيل.

لكن الحقيقة التي صُدمنا بها أن تجارب الأصدقاء تُنبئ بغير ذلك، فالبعض يجزم أن المدارس الخاصة هي ترفٌ لا معنى له فلا فارق بينها وبين المدارس العامة، وآخر يرى أن اكتساب اللغة الإنجليزية في المدارس الخاصة هو أكبر مزاياها، فيما يدافع آخرون عن المدارس الخاصة بداعي اهتمام الكادر التعليمي فيها بتنمية مهارات الأطفال على قدرٍ من المساواة مع تحصيلهم العلمي، ولكلٍ نصيبٌ من الحقيقة.

ماذا لو سلمنا أن أصحاب الدعوى الأخيرة هم المُحقون، وأردنا أن نرى حالنا قبالة حال التعليم في بلدان أخرى؟



لفرط الأسى وسوء الحظ وقعت يدي على كتاب للدكتور عزام الدخيل بعنوان "تعلومهم - نظرة في تعليم الدول العشر الأوائل في مجال التعليم الأساسي"، يعرض فيه المؤلف - المهتم بقضايا التعليم وبالأخص في مراحله الأساسية- "تجارب الدول المتقدمة في مجال التعليم الأساسي لاسيما في الدول العشر الأوائل المصنَّفة بحسب تقرير بيرسون عن التعليم في الدول الأعلى في العالم في المهارات المعرفية والتحصيل العلمي للعام 2012 ".

قلتُ أن قراءتي للكتاب كانت سوء حظٍ ، فأن تشغل بالكَ مدةً طويلةً  جودةُ التعليم الذي ستتلقاه ابنتك، ثم ما إن تقرر أخيراً من بين المتاح من خيارات لا تراها تلبي كل طموحاتك، تبدأ القراءة عن تجارب دولٍ أنفقت كل جهدها في سبيل تحسين جودة التعليم الأساسي فيها بما يكفل تخريج أجيال من المؤهلين ليصبحوا عباقرةً ومبدعين يصنع من سبقهم حاضر بلدانهم ويصنعون هم مستقبله كأفضل ما يكون المستقبل المأمول، فهو بلا شك سوء حظٍ نتيجته الأسى مما هو ممكن وما هو واقعٌ ، لكن ما باليد حيلةٌ لنحتال.

الكتاب على قدر ما هو صادم في كشف حقيقة الترهل والعبثية التي تدار بها العملية التعليمية في بلدنا، على قدر ما يضع أمر نجاح تجارب الآخرين في مواضعها، فلا هم ورثوا كنوزاً فأخفوها عن الآخرين ولاهم استعانوا بمدد من سكان الفضاء ليُحسِّنوا مدارسهم ونظامهم التعليمي، هم فقط وضعوا الأمور في نصابها: كم يُكلفنا صناعة جيل من أطفال مبدعين وأذكياء قادرين على تحمل المسئولية؟ وكم يكلفنا صناعة شيء آخر؟ فكانت الأرباح أكثر من أن تُفوّت والتكاليف أقل من يُضحى بمستقبل أوطانهم لأجلها.

من بين التجارب الجميلة التي تلفت الانتباه جداً تجربة بلدٍ قلما سمع أحدنا عنه قبل أن نعرف هواتف الجوال نوكيا، فنلندا بلدٌ اسكندنافي عاشت جزءاً من تاريخها تابعة للسويد ثم لروسيا الإمبراطورية، عاشت حروباً تبعت استقلالها بداية القرن العشرين.

تجربة هذه البلد في تحسين جودة التعليم الأساسي لو قيست بمردودها فإنها بلا شك ستكون أكثر من ناجحة، ففنلندا بحسب موسوعة ويكيبيديا "حديثة العهد نسبياً في التصنيع حيث حافظت على اقتصاد زراعي حتى الخمسينات من القرن الماضي. تلا ذلك تطور اقتصادي سريع حيث أصبحت البلاد دولة رفاه اجتماعي واسع ومتوازن بين الشرق والغرب من حيث الاقتصاد والسياسة العالمية. تتصدر فنلندا باستمرار المقارنات الدولية في الأداء الوطني حيث تتزعم فنلندا قائمة أفضل بلد في العالم في استطلاع مجلة نيوزويك لعام 2010 من حيث الصحة والدينامية الاقتصادية والتعليم والبيئة السياسية ونوعية الحياة. كما تعتبر فنلندا ثاني أكثر البدان استقراراً في العالم  والأولى في تصنيف ليجاتوم بروسبيريتي 2009. في عام 2010، كانت فنلندا البلد السابع الأكثر تنافسية في العالم وفقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي. تعد فنلندا حالياً ثالث بلد من حيث نسبة الخريجين إلى السكان في سن التخرج العادي حسب كتاب حقائق منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية لعام 2010".

من بين أهم ملامح التجربة الفنلندية التي حكى عنها كتاب الدكتور الدخيل، مهارة "تعلُّم كيفية التعلُّم" وهي -مع مهارات أخرى-بحسب الكاتب: "مهارة محورية وأساسية لتطور الطلاب وتنمية قدراتهم، وقد رُوِّج لهذه المهارات بفاعلية بوصفها مهارات وعناصر أساسية لتحقيق التعلم مدى الحياة ويشمل ذلك تنمية قدرة الطالب على التعلم المستقل، وتنمية الحافز الذاتي للتعلم، وتنمية قدرته على حل المشكلات وتنمية قدرته على تقويم أدائه التعليمي والاستراتيجيات المتصلة بذلك. إذ يركز التعليم في فنلندا على هدف تعليمي واضح في كل مواد التعليم الإلزامي وهو أن يحقق الطلاب مهارة " تعلُّم كيفية التعلُّم".

من التجارب الأخرى المميزة تجربة كوريا الجنوبية عملاق التكنولوجيا الآسيوي وأحد أكبر دول العالم نمواً اقتصادياً في القرن الماضي والمستند في قوته إلى تجربة تعليمية مثيرة سدت فقره في موارد الطبيعة ، من أوجه التميز في التجربة الكورية بحسب الكتاب: "ينفق آباء الأطفال –في كوريا الجنوبية- في سن المدرسة نحو 25% من دخلهم على تعليم أولادهم، ويخصص جزء كبير من تلك الأموال للإنفاق على الوسائل التعليمية المكملة والمدرسين الخصوصيين .. وقد سعت الحكومة إلى تنفيذ سياسات متعددة لتخفيض ما يجري إنفاقه من تكاليف على التعليم الخاص وذلك عبر إنشاء أنظمة تعليم مهنية متطورة، وتنويع المناهج وتنمية الإبداع والتعليم الذاتي، وتنمية مهارة المعلم. كما عمدت الحكومة إلى زيادة رضا الناس عن مؤسسات التعليم العام عبر تعزيز برامج ما بعد المدرسة". وهذا يعكس أولاً مدى حرص الإنسان على توفير أحسن الفرص في تعليم ذي كفاءة وجودة عالية لأبناءه وثانياً حرص الدولة على مجاراة الناس في توقعاتهم وسقف طموحاتهم العالية بأن تجعل في التعليم العام والمتاح لكل أفراد الشعب بمختلف طبقاتهم  وقدراتهم المالية كفايةً تغنيهم عن التعليم الخاص.
وبحسب موقع الملحقية الثقافية لسفارة المملكة في كوريا الجنوبية فإن من أهم المواد الدراسية التي يتعلمها الأطفال في منهج الدراسة الإبتدائية هناك:
- التربية من أجل الأمانة.
التربية من أجل الحياة ذات المعنى.
التربية من أجل التمتع بالحياة.
التربية الخلقية.
التربية الرياضية.
الحِرَف.
- النشاطات اللاصفية
" وهذه النشاطات بطبيعة الحال إلى جانب تعليم اللغة والحساب والدراسات الاجتماعية- قادرة على أن تفعل شيئاً مهماً هو بناء الشخصية وبناء الذات القادرة على العطاء المتميز في الحياة.
إن هذه المناهج يتم دراستها خلال عام دراسي تصل أيامه في حدِّها الأدنى إلى مائتين وعشرين يوماً.
هذا المنهج الموجه في عام دراسي طويل وجاد يؤدي إلى آثار إيجابية بعيدة المدى تنتج عن مدرسة لا تقيم وزناً كبيراً للاختبارات، بل تجعل اهتمامها مُنصباً على امتلاك طلابها للمعلومات والمهارات والمفاهيم الأساسية ولو تَطَلَّب الأمر أن يستمر المدرسون مع الطلاب إلى ساعات متأخرة من الليل حتى تتأكد المفاهيم، وترسخ المهارات، وتنمو المعارف.. هذا هو شأن المدرسة الابتدائية والمتوسطة في كوريا الجنوبية."

ولو كنت ممن يقتلهم الفضول عن مؤهلات المعلمين الذين يشرفون على هكذا مناهج دراسية فبحسب ذات المصدر : " قد قامت كلٌّ من جامعتي «سيؤول» الوطنية وجامعة كيني بوج الوطنية بتقديم برامج تدريبية أثناء الخدمة للمدرسين / المرشدين، وتضمنت هذه البرامج المقررات التالية:
سيكولوجية السلوك الإنساني.
أسس التوجيه والإرشاد.
علم نفس النمو.
الاختبارات والمقاييس النفسية.
- الصحة العقلية."

الآن وقد عرفتُ البون الشاسع بين منظومة تعليم قائمة على مناهج جل اهتمامها حشو رؤوس التلاميذ بمعلومات وقوالب معرفية محددة ، وتنسى كل ماله علاقة بتنمية مهارات البحث والتقصي عن المعلومة، وتخرج أطفالاً يفقدون حب الإطلاع والمغامرة والاعتماد على الذات ويفقترون مهارات حل المشكلات، يقوم عليها معلمون كل كفاءتهم شهادات جامعية في تخصصاتهم العلمية في غفلة عن أسس التوجيه وعلم نفس النمو والتعامل مع الأطفال العاديين فضلاً عن الموهوبين منهم، ومنظومات تعليم تُمارس في بلاد أخرى كان أن أعارت شيئاً من اهتمامها لمستقبلها فخلقت أفضل الفرص لأطفالها ليكونوا علماء ومبدعين ، فهل للومك – أن أُسرف في التفكير والاستشارة والبحث عن مدرسة لابنتي- معنىً أو سبب؟!


علي المرهون
22 مارس 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق