الجمعة، 15 يوليو 2011

كيف تجعل جزء الثانية يدوم إلى الأبد؟!!

رُغمَ التلاشي الجزئي لملف الذكريات المخبوء في الجزء المُعنون بـ"ذكريات مرحلة المراهقة" بفعل التقادم من ذاكرتي، إلاّ أن بعضاً منها كان ولا يزال عصيّاً على التلاشي بامتياز!
لم أزل أحمل في ذاكرتي الصُوريّة ملامح وجه مدير مدرستي الثانوية وبراعته في رسم ردة فعل احترافية، خِلتُها أيقونةً "للتعجب" حين انتهيت من توسلاتي له للسماح لي بالتغيب ليوم واحد لغرض إنجاز معاملة في دائرة المرور..

أيقونة التعجب التي أبدعها كان مردُّها إلى مفاجأة صنعتُها حين أخبرتُهُ أن تاريخي "لسنة واحدة" خالٍ من أي محظورٍ قانوني جزاءهُ "مخالفة مرور"، قال لي بالحرف الواحد: "إن لم تسمح لهم بتشويه صحيفتك في هذه السنة فلا تسمح لهم أبداً، كُن كالبطل لا يرضى بغير أداور البطولة".
كانت كلماته – عدا أنها منحتني شعوراً عظيماً بالرضا – حافزاً حقيقياً.. كنتُ بطلاً بحق، حتى شاء الله وانتهى زمن الأبطال، حين انتهى مفعول كلماته مع مرور الأيام وأفلح أحدهم في تشويه الصحيفة البيضاء.

أحد أهم الفصول لأي كتاب في علم الإدارة الحديث هو ذاك الفصل الذي تتوج صفحته الأولى عادةً بصورةٍ كارتونية كتلك التي يقف فيها أحدهم على الكرة الأرضية.. "كلها"، ويرمق السماء بعينيه وكأنه يضرب معها موعداً حاسماً دونه الموت أو البطولة ، وعادة ما تحتل الزاوية العليا لجهة الشمال من تلك الصفحة عبارة من قبيل " انطلق نحو القمر ، فحتى لو أخطأته فإنك ستهبط بين النجوم".

ثقافة التحفيز أو قل "سحره" كما دعاه بعض من كتب فيه حاضرة بامتياز في النتاج الأدبي والعمل الاجتماعي والسلوكيات التربوية لبعض الثقافات، غائبة بنفس القدر من الامتياز لدى آخرين، وهذا الفارق المنهجي يصنع فارقاً كبيراً في النتيجة.

الطابع العام للنتاج الأدبي لأي ثقافة يُعبر عن اهتمامات وإمكانات تلك الثقافة و يُعد مؤشراً على المنهاج الذي تستخدمه هذه الثقافة في قراءة واقعها واستقراء مستقبلها وصنع الفارق.

بعيداً عن التعمق الفلسفي في قراءة مثل هذه الأفكار وشرح أسبابها، لي –كقارئ وملاحظ بسيط- أن أقف عند عناوين وأفكار وأساليب العلاج التي تطرحها بعض المؤلفات التي تحتل الرفوف الأمامية لأي مكتبة، هناك ستجد وتقارن بين منهجَي نقد وعلاج لهما هدف مشترك ، فالذي يقول في إعلان دعائي لكاميرا "كيف تستطيع أن تجعل جزء الثانية يدوم إلى الأبد؟!!" ثم يقرر أن كامرته قادرة على ذلك ، له نفس الهدف الدعائي الذي من أجله يقول آخر " الحياة فقاعة فحاول أن تصورها قبل أن تنفجر!!"، لكن الفارق بينهما هو في إثارة الجانب الأجمل في عقل المتلقي ففي حين كان الأول يحفز عند مشاهد الإعلان جمالية الاحتفاظ باللحظات والذكريات الجميلة إلى الأبد عبر التقاط الصور ، كان الآخر يمارس نفس الإقناع لكنه أوحى للمتلقي أن عملية التقاط الصور هي آخر ما قد يمارسه لو قرر الموت والرحيل ولا بد من بعض السرعة في إتمام الموضوع.

وحدة الهدف لم تكفِ هنا لتصنع وحدةً في الرؤية الإبداعية للعمل الدعائي، فصانع الإعلان الأول امتلك أداة لم يحرزها الآخر، فقد نجح في تحفيز الرغبة الكامنة عند المتلقي وصوّر له النتيجة جميلةً تبعث على السعادة والرضا، فيما أثار الآخر غبار الحقيقة فقط فتقريرُ الحقيقة المتفق عليها لا يصنع الكثير إذ هو تحصيل حاصل، فضلاً عن أنه أغفل تقديم الحافز المغري.

"انطلق نحو القمر فحتى لو أخطأته فإنك ستهبط بين النجوم" 1

"ليس هناك سوى شيء واحد يمكن أن يجعل الحلم مستحيلاً ، إنه الخوف من الفشل" 2

"إذا كان أحد الأشخاص يعمل كناساً للشوارع، يجب عليه أن يكنس الشوارع بنفس الروعة التي كان يرسم بها مايكل أنجلو لوحاته ويكتب بها شكسبير شعره ، يجب أن يكنس الشوارع بكفاءة تجعل الجميع يتوقفون ويقولون: هنا يعيش كناس شوارع عظيم يؤدي عمله كما ينبغي" 3

هذا المنحى في إثارة التحدي الغريزي وتحفيز القدرات البشرية التي يمتلكها القارئ عبر توجيهها صوب النظر إلى النتيجة الموعودة أضاف للنصوص التي جاءت فيها هذه الكلمات بُعداً تحفيزياً وألقاً جعل منها جزرة الأرنب دون عصاه.

"في اليوم الذي لا تواجه فيه أية مشاكل تأكد أنك تسير في الطريق غير الصحيح" 4

"إذا سمعت نباح الكلب، فأطلق ساقيك للريح فأنت المقصود بنباحه" 5

"نجاح التجربة دليل على خطأ في أحد عناصرها" 6

أما هذا المنهج فهو على فرض إيمان ناهجيه بصوابيّته قد لا تتوقف آثاره على فقدان الأرنب الرغبة في الجزرة التي لم يجد لها ذكراً بل قد يتعدى ذلك فتصبح العصا عقدة بعد أن احتلت كامل المشهد الذي واجهه، فلا هي أثارت في قارئها رغبةً ولا هي تركته دون جرعة إحباطٍ كفيلة أن تُقعده عن أي مشروع للتغيير أو رغبة في الحركة.

ولأن آداب الشعوب ما هي إلا هم كما يكتبون، فإن الممارسة النقدية وعملية التفاعل مع العطاء بكل صُوَرهِ، تأخذ أشكال الممارسات التي يكتبها الروائيون وكتاب المقالات وأعمدة الصحف، فبعضٌ أشبع النواقص بحثاً وتحليلاً و"شماتة" فصارت الوسيلة "النقد" غاية بالنسبة له فلا هو قدم علاجاً ولا مارس النقد بوجهه التحفيزي فشجع الأرنب و أرشده لخط النهاية.

وبعضُ آخر داعب شيئاً من خيالات وطموحات مجتمعه وأغرى فيهم حب الوصول فكان أن استبدلوا "عقاب" تجاوز أنظمة المرور بـ"ثواب" الإلتزام بها، فالعقاب حين يخفق لا يتبقى إلا الثواب وسيلة للتغيير ، هذا في حال لم تُكتشف قدرة التحفيز على تغيير سلوكيات الناس و أطباعهم ، أما لو كان مبدأ العملية النقدية قائماً على التوازن مع ميلٍ تتطلبه طبيعة البشر لكانت الجزرة ممدودة للأرنب وطولها شاهق على طول العصا ، وهي كفيلة بالنتيجة المطلوبة حتماً.

1 لويس براون
2 باولو كويللو
3 مارتن لوثر كنج
4 سوامي فيفيكاناندا
5 من المأثور في الأدب الروسي
6 قوانين مورفي


علي المرهون
27-8-2008م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق