الأحد، 10 يوليو 2011

ديدان المجتمع!

ليسَ الأمرُ كما قالَ أحدُ رجال الأعمالِ أنّ الهندَ باتت "تصنعُ كلَّ شيءٍ من أيّ شيء!!"، فزَخمُ وتنوّع نتاجات الأُمّةِ الهنديّة ليس حكراً على الصناعةِ فقط، بل تجاوز الآلةَ والمصنع والمواد الخام كمُدخلاتٍ تُطَوَّع لتصلَ في نهايةِ رحلتها إلى أي مُستهلكٍ في أي مكان من كوكبِ الأرض.

فأُمّة المليار إنسان الباذخة الغِنى بثقافاتها و أعراقها ودياناتها، غذّت رصيدها في بنك الحضارة الإنسانية بما هو أكثرُ جدوى وأطولُ في عمره الإستهلاكي من سياراتها و رقائق السيليكون الكومبيوترية وغيرها مما لا يخلو منها ركنٌ في بيوتنا أو مفصلٌ من حياتنا.

"هنا تجد كل ما تعرف، وكلَّ ما لا تعرف"، هي جزءٌ من العالم اختبر كل التجارب وعاش كل الحكايا ، بلدٌ إن أقفرت فيه من شيء فلا تحتمل عناء البحث عنه في مكانٍ آخر، إذ ليس للفقد في هذا البلد معنىً، كلّ ما مارسهُ الإنسان من فعلٍ أو قولٍ، علمٍ أو جهلٍ كان لهُ صدى في هذه الناحية من بلاد الله.

لستَ بحاجة لتفترض أمراً، فكُلّ ما قد يُفترض صار حقيقة في الهند، حتى السيناريوهات الأكثر خيالية. ما دفعني لكتابةِ ما قد يُعدّ (حتى الآن) مُبالغةً هي حكاية جهاز صرف آلي في قرية نائية من الجزء الشرقيّ لشبه القارةِ الهندية.
إلى تلك البقعة نسَب مُحاضرٌ هنديّ - في دورة تدريبية كنت أحضرها قبل أيام - فصول ما اعتدتُ على قراءته في الكتب و المقالات على أنه الحكايا الغير قابلة للتحقق.

حكى صاحبنا أن مواطناً هندياً قصد في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل أحد أجهزة الصرف الآلي لأحد أشهر البنوك التجارية في الهند ليسحب مبلغاً من مالٍ أودعهُ – كما يفعلُ كلّ الناس – لكن الجهاز شحّ بالأوراق النقديّة (وهو أمرٌ لا يستدعي الكثير من تأويل) فقصد جهازاً آخر في الطرف المقابل من القرية فما كان أكرم من سابقه، ساورَهُ بعضُ الشكّ والقلق كما يبالغ كل الهنود في الحرص - والمبالغة هنا بمقياسنا – فهاتف أحد أصحابهِ مُستفسراً عن أي خبرٍ بخصوص إفلاس البنك أو توقّفه عن إرجاع الأموال لأصحابها ، إجابةُ النفي التي سمعها لم تشفِ غليله فقصد منزل أحد الصحافيين يسكنُ في ذات محلّته لعل سعة إطلاع الرجل تكشف الغامض، نفى الصحافيّ أيّ علمٍ، لكنه أُغرِمَ بعنوانٍ لمقالة يكتُبها تتحدث عن مواجهة البنك لبعض الصعوبات في إرجاع أموال عملاءه في تلك القرية.

صباح اليوم التالي صدرت الصحيفة المحلية بالمقال الذي تلقّفهُ مراسلو القنوات الإخبارية بالأخص تلك التي تُعاني لملأ ساعات البث بمواد تلقى قبول واهتمام الناس (لا أدري لم تمارسون سوء النية وتعتقدون أنّي أعني قناة السعودية الإخبارية)، إحدى القنوات زادت – من باب التميز – سطراً إضافياً للخبر يُفيد أن المشكلة التي يواجهها البنك عمّت أرجاء الجزء الشرقيّ من الهند كله.

هنا وبذات الآلية التي تنتشر بها أغصان العنب ، انتشرت الإشاعةُ وأفرزت عمل السحر، ساعات إذ بالمودعين (وهم ملايين) يقفون في صفوف طويلة على أبواب الفروع وأجهزة الصرف الآلي التابعة للبنك ليستردوا أموالهم قبل أن تتبخر ولات حين مندم.

إدارة البنك العُليا تفاجأت بالسيناريو الكارثيّ ولم تمتلك من أمرها شيئاً وربّما قدّمت أسلوب (خليها على الله ، تزين) في معالجة الوضع، فشائعةٌ مثل هذه ستنتحرُ في أرضها مع مرور الساعات ، لكن شيئاً من انتحارٍ لم يكن، بل نحراً غير متعمّد مارسهُ رئيس البنك المركزي إذ خرج على الناس في مؤتمر صحافي ليؤكد استعداد بنكه لمساعدة البنك العريق وأنهم لن يسمحوا له بالانهيار .. والسلام، مما عزّز الشائعة التي حكت عن مشاكل في السيولة يعانيها البنك العتيد.

لم تكد تغب شمسُ ذلك اليوم العصيب إلا والبنك قد خسر قرابة 30% من مجمل ودائعه (لمن لا يُقدّرُ حجم هذه الخسارة ، أتركُ له تخيّل بداية مباراة بين الصقور الخُضر والبرازيل والنتيجة تُشير إلى تفوّق المنتخب الذهبي بأربعة أهداف بدلاً للنتيجة المعتادة في البدايات صفر / صفر .. وهذه أصلاً مصيبة!!).

"المجُتمعات كالفاكهة، الديدان تختفي في قلبها" يقول (بول جير)، و الديدان في حكايتنا يُحتمل أن تكون في صورة: (كثير الخوف والتردد الغير وائق / المُودع مُفتتح الحكاية) أو أن يكون (الانتهازيّ / الصحافي المتحمّس على حساب المصداقيّة) أو (الفاضي وعامل قاضي / القناة التلفزيونية الباحثة عن سبقٍ أو لا سبق ، المهم أن تملأ وقت فراغها الطويل) أو (عديم الحكمة فقير حُسن التصرّف / رئيس البنك المركزي سليم النية أعوج التطبيق) أو حتى (السلبي الغامض المُفترِض خيراً بعد كل إشاعة / إدارة البنك)، لكن الحقيقة التي يتجاوز الإيمان بها حدّ الاحتمال هي: أن الشائعة أيّاً كان مصدرُها أو هدفُها أو البيئة الحاضنةُ لها.. قادرةٌ على إفساد المجتمع كما تفسدُ التفاحةُ في قلبها الدود.


علي المرهون
23/6/2009م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق