الجمعة، 15 يوليو 2011

بابار علي

إلى النقطة الأبعد في الشّرق الهندي ، سافرَ Damian Grammaticas مراسل قناة الـ BBC في منطقة جنوب آسيا، تحديداً لولاية البنغال الغربية، لا ليأسفَ لتاريخ الهواية الإنجليزية الأشهر في تقسيم البلدان و تجزيئها على أسس عرقيّة أو طائفية (البنغال الغربية هي الشطر الهندي الحالي من البنغال الكبرى التي تشمل بنغلادش الحالية وقد شطرها الإستعمار البريطاني إلى شطرين، ذهب المسلمون بشرقها ، والهندوس بالغرب)، ولا ليُمارس هواية تسلِّق الجبال ومغامرات استكشاف الطبيعة في الهملايا، ولا حتى ليحكي عن شاعر الهند الأشهر "طاغور"، بل ليأتي بأولى حكايا سلسلة Hunger to Learn التي أطلقتها القناة مؤخراً لترصد أجمل حكايات الشغف بالتعلم والبحث عن المعرفة وأكثرها إثارة في العالم.

"أصغر مدير مدرسة في العالم" هكذا عنون المراسل تقريره الأول، أما بطل الحكاية فهو صبيٌ في السادسة عشر من عمره يُدعى "بابار علي"، تقطن عائلته الفقيرة في مدينة "مرشدآباد" التي تعاني تفشّي الفقر والجهل والأمراض بمستوىً يفوق سواها من مدن الولاية.


يومُ المراهق بابار يبدأ باكراً، يستيقظُ ليساعدَ في أعمال المنزل والحقل اليومية، ثم يمتطي عربة الريكشو إلى مدرسته التي تبعد قرابة الـ10 كلم، يقطعُ بعضاً من آخرها ماشياً لوعورة الطريق، ثُمَّ يُمارس هوايته الأفضل.. "التَّعلُم" في مدرسة تُعدُّ الأفضل في المنطقة القريبة، لأنها في فصولها بعض الكراسي والطاولات، وسبورةً .. و مُدرِّس !!

يتفاعل بابار مع كل المواد الدراسية بإخلاصٍ وعشقٍ للتعلم .. يستمع، يناقش، يدوِّن الملاحظات ليستذكرها، يتأكد من استيعاب كل ما يُلَقّن، ليس من أجل تحصيل العلامة الأعلى في امتحانات نهاية الفصل فقط، بل لأنه يحمل رسالة وواجباً عاهَدَ نفسهُ أن يُخلصَ في أداءهما ما استطاع.

يومهُ لا ينقضي بصافرة الحصة الأخيرة ليبدأ اللعب وممارسة هواية أكثر متعة، بل يبدأ فصلُه الثاني عند وصوله من رحلة العودة الشَّاقة إلى قريته، هناك وفي باحةٍ خلفية لمنزل العائلة يجتمع قرابة الـ800 طفل بين ذكرٍ وأنثى من عمر الخامسة إلى الخامسة عشر، كلهم يتساوون في حقيقة أن أهاليهم عجزوا عن إرسالهم لتلقي التعليم النظاميّ في المدارس رغم أنه مجاني!!

بابار الطالب المتعلم صباحاً، يُمسي أستاذاً معلماً ومديراً لمدرسة غير نظامية، فصلها واحد، لا زيّ موحد لها ولا مقاعد مخصصة للطلاب فيها، يبدأ طقوسه الخاصة فيأمر طلابه بتلاوة النشيد الوطني، ثم يقدِّم لهم نصيحةً عن النظام أو النظافة أو طاعة الوالدين ليبدأ بعد ذلك في نقل العلم الذي اكتسبه لهم، ليشاركهم "متعة المعرفة"، يقول بابار "في هذه المدرسة سيتعلمون مما تعلمته أنا، ولم يقدروا أن يكونوا مثلي لأن آبائهم فقراء جداً".

ويضيف "كنتُ في التاسعة حينما بدأت بممارسة دور الأستاذ لأصدقائي على سبيل اللهو، كانوا معجبين ومتلهفين لمعرفة كيف تسير الأمور في مدرستي وماذا يحدث هناك، كانت لعبة فقط .. لكني الآن، أستشعر أن هؤلاء الأطفال لن يتمكنوا حتى من القراءة والكتابة إذا لم يتلقوا بعض الدروس، إنه واجبي أن أعلمهم كما تعلمت أنا.. لنساعد بلادنا لتبني مستقبلاً أفضل".

مدرسة "بابار علي" الآن فيها 10مدرسين جلّهم تلاميذ مدرسة أو جامعة، تُقدِّم خدماتها التعليمية بلا مقابل ، حتى الكتب الدراسية والوجبات الغذائية تُعطى مجاناً للطلاب الـ800 مُعتمدةًً على التبرعات الخيرية التي تتلقاها.

مسئول محليّ في المدينة قال " إن هذه المنطقة من الولاية تعد الأفقر، لكن مبادرة بابار زادت نسبة القارئين وخففت مستوى الأميّة بين الأطفال، لا يمكننا أن نُقدِّم له أكثر من الشكر والعرفان"

هو حتماً لم يقرأ شيئاً في الانترنت عن إدارة المعرفة Knowledge Management وأن نقل المعرفة للآخرين هو وسيلةٌ وهو غاية، ولم يستمع لخطابات وعظيّة عن العطاء والتضحية والعمل التطوعي، وما لُقِّن أن "زكاة العلم تعليمه".. هو فقط مارس ذاته الإنسانية كاملةً، استشعر أمانة موازية للنعمة التي يُلقّاها، أحسَّ بالواجب تجاه قريته وبلده.. وأصدقاءه.

كانت فكرةً شاهقة الجمال، لم يقرأها في رواية انتهت على رفِّ المكتبة، ولا كتبها خاطرةً ليقرأها آخرون، ولا حتى وأدها في خياله الخصب.. هو أبتدعها، ثم آمن بها ، ثم أمَّن لها الحياة.

يقول مالك بن نبي: "لا يكفي أن تُبدعَ أفكاراً.. بل يجب أن تؤمِّن لها الحياة"



علي المرهون
13/10/2009م


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق